د.محمود عبدالفتاح المقيد يكتب: غزة من الداخل
في الحقيقة لا يدري المرء من أين يبدأ، أو كيف يبدأ..، فكل ما يُكتب أو يُنشر أو تجود به القرائح والأقلام لا يمكن أن يصف بدقة واقع الحال في غزة الجريحة، ولكن تاريخ السابع من تشرين أول/ أكتوبر لعام 2023م لم يكن حدثاً عاديًا في تاريخ القضية الفلسطينية.
ولقد غيَّر هذا التاريخ مجرى الحياة في قطاع غزة، وكان له أثرٌ عظيم على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، وربما يظل أثره ممتدًا لسنوات طوال، ولعدة أجيال متعاقبة، إذ إن الحياة بعد السابع من أكتوبر جعلت من النسيج الاجتماعي الفلسطيني الغزّي ممزّقا ومُشوَّهًا
بفعل العديد من الأزمات والتحديات التي تواجه الأسرة الفلسطينية التي باتت تواجه معاناة يومية روتينية قاتلة في ظل صعوبة الحصول على أدنى مقومات الحياة في خيام النزوح ومراكز الإيواء المكتظَّة بالنازحين المكلومين والمعذبين، الهاربين من وطأة الصواريخ وأزيز الرصاص والقذائف وهدير الطائرات التي لا تفارق سماء غزة للحظة واحدة
ففي خيمة النزوح الواحدة نجد عشرة أشخاص وربما أكثر من ذلك، وفي غرفة الإيواء (في المدارس والعيادات) نجد المئات الذين صاروا بلا مأوى بعد أن دُمِّرتْ بيوتُهُم، أو أُحرقت أو تعرضت للهدم الجزئي أو الكلِّي، أو لربما تعرضت للسطو والسرقة، وجلّهم من النساء والأطفال والشيوخ الذين تقطّعت بهم السُّبُل، وصاروا يتقاسمون الهموم والمعاناة مع بعضهم.
ويعيشون كل تفاصيل الحياة دون أيّ اعتبار لخصوصية كلٍّ منهم..، حيث شاهدنا كيف ينتهز أحدهم الفرصة لتغيير ملابسه في ظروف حرجة وصعبة منتظرا ومنتهزا فرصة مغادرة الآخرين للغرفة، وفي كثير من الأحيان كنا نشاهد الطوابير التي تصطف منتظرة الدور في دخول الحمّام، علمًا بأنه حمّام عام يفتقر للنظافة وللبيئة الصحية، بسبب عدم توفر المياه في مراكز الإيواء
ناهيك عن قلة الدواء وندرته، وكذلك الأمر بالنسبة للغذاء والملابس، وكافة مستلزمات المعيشة، كل ذلك ترك آثارًا بالغة الخطورة على المرضى وكبار السن والأطفال، وفي شمال غزة على سبيل المثال ارتقى حتى الآن ما يزيد عن 25 شهيدا بسبب سوء التغذية.
وفيما يتعلق بالمساعدات الإنسانية التي روّجت لها الكثير من وسائل الإعلام العربية والعالمية، والتي يتم إسقاطها من الجو أو إدخالها من البرّ عبر الشاحنات؛ فهي أكذوبة كبرى، وفضلاً عن كونها لا تسدّ الحدّ الأدنى من متطلبات المجتمع الغزّي المحاصر والمنكوب، فقد جعلت الآلاف من الغزيين- في مشهد بائس ومهين- يركضون نحوها هربًا من المجاعة الخانقة، مما تسبّب في وقوع حالة من الفوضى، وانعدام التوزيع العادل لمن يستحقها، كما أنه خلق ظواهر سلبية غريبة على المجتمع الغزّي كالسطو المسلّح عنوة، حيث تسبب ذلك بسقوط الكثير من الضحايا ما بين القتل أو الإصابات المتوسطة والخطيرة، حيث يقوم أولئك اللصوص بنهب تلك المساعدات وبيعها في السوق السوداء، بأسعار تفوق الخيال، فمثلاً كيلو السكر بيع بحوالي 30 دولار، أما الأرز فقد بيع الكيلو الواحد منه بما يزيد عن 20 دولارا.
انعدام الأمن بعد أن رضينا من الغنيمة بالإياب:
إن نعمة الأمن والاستقرار صارت حلما بالنسبة لأبناء شعبنا، وفقدان الأمن هو أولى المصائب التي واجهت شعبنا بعدما حدث في صبيحة السابع من أكتوبر، عندما نفّذت الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حماس ما أطلقت عليه اسم “طوفان الأقصى” لتبدأ غزة منذ ذلك التاريخ المشؤوم فصلاً جديدًا من فصول المعاناة التي لا تنتهي في كافة مناحي الحياة
بدءًا بانعدام الأمن، ولنا أن نتخيل مقدار الهلع والخوف لساكني تلك البيوت التي أصبحت تتراقص من شدة القصف، الذي جعل الشظايا تنتشر كالمطر في كل مكان، حتى صار الإنسان يبحث داخل منزله عن ركنٍ آمن أو زاوية ربما تكون أكثر أمنا من غيرها، وسط بكاء النساء والأطفال، وسماع دويّ الانفجارات في كل مكان، الأمر الذي ينتج عنه دمار البيوت والمساجد والمباني المجاورة، فضلاً عن تطاير الزجاج والنوافذ وخزانات المياه وخطوط الكهرباء، لا يعرف الشخص متى سيسقط الصاروخ أو القذيفة وأين!! لقد أضحى مهددا في كل مكان
وصار الموت يحيط بالمرء، ويقترب منه ومن أطفاله وأهله في كل لحظة، وبات شبح الفراق يلوح في كل بيت وشارع.. في الواقع لقد هدّت القطيعة المؤلمة شعبنا، وأظلَّته الهُموم كالغمامة السوداء، وأذابتهُ الأحزان والكُرَبُ المتراكمة.. وبقي لوحده في مواجهة قسوة الزمان وألاعيب السياسة ومكرها ..
لقد انقلب الطوفان حميما وغسّاقا فوق رؤوس الأبرياء من شعبنا الذين لا حول لهم ولا قوة ..، والذين صارت حياتهم مفعمة بالألم، ومجبولة بالقهر، ومسكونة بالدموع والآهات.. فهم أناسٌ استوطن البأس واليأس نفوسهم، بعد أن تكاثرت عليهم الأوجاع والهموم في زمن الرمادة