بسمة الصقار تكتب: ليس يوماً واحداً.. ولكنه موسم الـ (شمو إن نسيم)
قبل أن تصحو مبكراً متجهاً إلى مطبخك لتحضير صنوف الطعام المختلفة، والتي نطلق عليها نحن المصريون أكلات شم النسيم: السمك المملح، البيض الملون، الخس، البصل، الملانة (الحمص الأخضر)، من الإنصاف أن نعيد الأشياء إلى أصلها، وأن نؤصّل للكثير من مظاهر الاحتفالات التي نحرص على إحيائها بشكل مباشر، ونعرف معاً تاريخ الكثير من التفاصيل التي نمارسها دون أن ندرك أن ما ورثناه من طقوس له دلالات محددة ومعانٍ فريدة.
في البداية هيا بنا نعرف كيف قسّم أجدادنا السنة الشمسية، وكيف كانت السنة تنقسم إلى اثني عشر شهراً موزعة على ثلاثة فصول، كل فصل أربعة أشهر:
١- فصل الشتاء أو رمي البذور (برِّت)
٢- فصل الصيف أو الحصاد (شِمو)
٣- فصل الفيضان (آخت)
ويحظى فصل الشمو عند قدماء المصريين بمنزلة كبيرة، خاصة عندما تتحول سنابل القمح من اللون الأخضر إلي اللون الأصفر وقت (التحاريق)، وهو مصطلح معروف عند كل فلاحٍ مصري والذي يعرف في اللغة المصرية القديمة بـ (نسيم)، فأصبح موسم تحاريق القمح استعدادا لجنيه هو موسم احتفالات كبرى تعم الأرض المصرية كافة، حيث أصبحت تلك الاحتفالات تحمل الصبغة الشعبية في كل إقليم ويحرص كل مصري على تقديم القرابين من محاصيل الأرض للمعبودات الخاصة بكل إقليم والتي تحمل معنى النماء والخصب والحياة المتجددة.
اللافت أن أول تعبير للخلق الإلهي هو (البيضة)، ونتذكر أن الملكة العظيمة حتشبسوت حين أرادت أن تعطي لنفسها صورة مقدسة كي تعتلي عرش مصر وصفت نفسها على معبدها الخالد بالدير البحري أنها وليدة البيضة المقدسة!
ولأن أوزوريس هو أول جسد تم تحنيطه، وهو ملك العالم الآخر رمز الخلود، فقد احتفل المصري بالسمك المملح الذي يعد رمزاً للخلود والحياة الأبدية!
وإذا عرفنا أن اسم نبات الحمص بالمصري القديم هو (حِر بيك) أي وجه حورس، وإذا أحضرت أنت الآن ثمرة وتأملتها ستجد لها منقاراً مثل الصقر (فهي تشبه حقاً وجه الصقر حورس) وحورس هو رمز للخصب والنماء والميلاد من العدم عند أجدادنا الأجلاء!
ونأتي معا إلى الخس الذي كان تقدمة أساسية للإله (مِين) إله الخصوبة!
وعندما نبحث عن معنى كلمة بصل في قاموس اللغة المصرية القديمة نجده (حِچو) أي الأبيض الناصع مثل هالات النور المنبعثة من قرص الشمس (رع) لتعيد الحياة يوميا لأرض مصر المقدسة، علاوة على أنه تقدمة للإله (سُوكر) في شكل عقود من البصل لقهر الموت وتجدد إرادة الحياة.
تُري ماذا فعل المصري عندما تحولت ديانته من الآمونية إلى المسيحية؟! وقد أصبح هذا الموسم الطويل الذي يحتفل فيه ويأكل أطعمة بذاتها وبدلالاتها الفريدة هو موسم الصيام الكبير الذي يسبق عيد القيامة المجيد؟!
هل تعتقد أن يتخلى المصري عن تلك الطقوس الاحتفالية الضاربة في عمق التاريخ والمحفورة في وجدانه وذاكرته لمجرد تغيير ديانته؟!
بالطبع لا!
فقد قام المصريون بتأجيل هذا الاحتفال إلى اليوم التالي ليوم الاحتفال بعيد القيامة، وأصبح الاحتفال يقام في يوم واحد فقط أُطلق عليه (شم النسيم) بعد أن كان موسم بأكمله تنتقل فيه البهجة والاحتفالات والأكلات المقدسة والأغنيات والأهازيج من مكان لآخر ومن حقل لحقل إلى أن تعم أرض مصر كلها طوال موسم الحصاد.
يبقي فقط أن نوضح أن سبب تغير موعد شم النسيم من عامٍ إلى عام يعود إلى طريقة حساب لعيد القيامة وضعها البطريرك (ديميتريوس الكرام) وهو البابا الثاني عشر للكنيسة المصرية والذي وضع نظام حساب أطلق عليه حساب (الأباقطي)، وبناء على نتيجة تلك الحسابات يكون عيد القيامة إما في أواخر برمودة أو بداية برمهات.
كل شِمو وكل مصري أصيل بخير وسعادة وفرح ومعرفة بمعنى كل طقس من طقوس الاحتفالات المصرية التاريخية الخالدة.