سهيلة عمر تكتب: حلم واحد في كهوف متفرقة: هل توارثنا الرموز دون أن ندري؟

عن التشابه الغريب بين الرموز البدائية في حضارات لم تلتقِ قط
في أعماق كهوف مظلمة من عصور ما قبل التاريخ، وعلى جدران صخرية متناثرة بين قارات متباعدة، نُقشت أولى الرموز الإنسانية بلون الدم والتراب.
أيادٍ مطبوعة، حيوانات مفترسة، كائنات هجينة، وطقوس موغلة في الغموض.
فرنسا، مصر، الأرجنتين، إندونيسيا، تركيا، أستراليا…
أماكن لم تعرف طرق التجارة بعد، ولا وسائل الاتصال، ولا حضارة بالمعنى المتعارف عليه.
ورغم ذلك، تُقدّم جميعها مشهدًا يكاد يكون متطابقًا في جوهره: إنسان يقف في مواجهة الطبيعة، ويحاول أن يكتب خوفه على جدار.
رموز مكرّرة… لكن بأي وعي؟
في كهف الأيادي بالأرجنتين، نجد بصمات بشرية مطبوعة على الجدران – نفس الرمز يتكرر في كهف إل كاستيو بإسبانيا، وفي كهوف الصحراء الغربية بمصر، وفي سولاويسي بإندونيسيا.
في لاسكو وشوفيه بفرنسا، تُرسم الحيوانات بحس فني يكاد يضاهي مدارس الفن الواقعي، بينما في كهف الوحوش المصري، تظهر كائنات ميتافيزيقية – نصف إنسان، نصف حيوان – ترقص في طقوس يصعب تأويلها.
ثم، على تلة في جنوب تركيا، يظهر جوبيكلي تيبي: أول معبد حجري جماعي معروف في التاريخ، بُني قبل الزراعة، قبل الكتابة، قبل المدن.
ما الذي يحدث هنا؟
هل من قبيل المصادفة أن يظهر هذا التشابه الرمزي والطقسي بين شعوب لم تعرف بعضها، وفي أزمنة تفصلها آلاف السنين؟
تفسيرات متعددة… كل منها يلمس جانبًا من الحقيقة
1. الوعي الجمعي – يونغ ونظرية الأرواح القديمة
عالم النفس كارل يونغ طرح مفهوم “اللاوعي الجمعي”: أن كل إنسان يرث في داخله أرشيفًا من الصور الرمزية يشترك فيها مع البشر جميعًا، مثل الأم، الموت، الحيوان، الإله.
من هذا المنظور، فإن الإنسان الأول – أيًا كان موطنه – رسم ما وُلد به في داخله.
2. الفطرة الدينية – نزوع طبيعي نحو التقديس
في الرؤية الدينية، الله غرس في الإنسان فطرة روحية تدفعه نحو الإيمان والبحث عن معنى أعلى.
هذه الرموز إذًا ليست بداية تفكير أسطوري، بل تجليات بدائية لفكرة الإله، والمقدّس، والخوف من الغيب.
3. عقل موحّد، ظروف متشابهة، استجابات متقاربة
حتى في التفسير العلمي المادي، فإن تشابه البنية العصبية للبشر يجعلهم يميلون إلى الأنماط ذاتها حين يواجهون الطبيعة والمجهول.
الرسوم الطقسية ليست سوى “منتج جانبي” لتطور العقل البشري.
4. تواصل غير مباشر – الذاكرة الثقافية العابرة للقارات
رغم المسافات، لم يكن البشر معزولين تمامًا. عبر آلاف السنين، انتقلت الأساطير، والرموز، والطقوس من جماعة لأخرى.
ليست وحدة فكرية بالضرورة… لكنها شبكة رمزية ناعمة عبر الزمن.
من كهوف مصر: حيث بدأت الأسطورة على الجدار
كهف السباحين – جبل العوينات
في أقصى جنوب غرب مصر، نقشت أيادٍ مجهولة أجسادًا بشرية تبدو وكأنها “تسبح” في الهواء، في لوحات يعود عمرها إلى أكثر من 10,000 سنة.
ربما لم يكن المشهد سباحة فعلية، بل استعارة للانتقال، للغمر، للموت، أو للبعث.
هذا الكهف ألهم رواية وفيلم “المريض الإنجليزي”، وكان أول من كشفه هو المستكشف المجري لازلو ألمسي في ثلاثينيات القرن العشرين.
كهف الوحوش – وادي السورة، الجلف الكبير
أحد أعظم كنوز فن ما قبل التاريخ في إفريقيا، ويضم أكثر من 5,000 رسم:
كائنات عملاقة بأذرع ممدودة، أفواه مستطيلة، بشر يرقصون بأقنعة، أطفال في طقوس جماعية.
العمر التقديري: بين 7,000 و9,000 سنة.
هذه الكائنات، المسمّاة “الوحوش”، لا تشبه أي حيوان معروف… بل تبدو كأرواح أو رموز لعالم الغيب.
نقوش وادي الحيتان – الفيوم
رغم أنها ليست رسومات بشرية، إلا أن هذا الوادي الصحراوي يضم بقايا حيتان عملاقة عاشت هنا قبل 40 مليون سنة.
تقدّم هذه الأحافير تذكيرًا بصريًا بأن الصحراء كانت قاع محيط، وأن ذاكرة الأرض قد تسبق ذاكرة الإنسان.
جوبيكلي تيبي: حين بنى الإنسان المعبد قبل أن يزرع القمح
أقدم معبد حجري معروف في العالم، يقع في جنوب تركيا، ويعود تاريخه إلى 11,500 سنة.
ما أذهل العلماء هو أن هذا الموقع الطقسي سبق الزراعة، والمدن، والكتابة.
ربما لم يطوّر الإنسان الدين بعد أن استقر… بل استقر ليحافظ على الدين.
الدين، إذًا، لم يكن “نتاج حضارة”، بل كان الحافز الأول لها.
هل ما زلنا نحلم الحلم ذاته؟
رموز الكهوف لم تختفِ… بل تحوّلت:
الأيادي أصبحت توقيعًا.
الحيوان المقدّس صار رمزًا دينيًا.
الكهف أصبح معبدًا.
الطقوس تحوّلت إلى شعائر منظمة.
لقد تغيّرت الوسائل… لكن الحلم لم يتبدّل.
نفس القلق، نفس الحنين، نفس الحاجة إلى تفسير الوجود، لا تزال تسكننا… حتى اليوم.
ما الذي تخبرنا به الجدران؟
تخبرنا الجدران أن الإنسان كان يبحث عن إجابة قبل أن يعرف السؤال.
أننا لم نكن “بدائيين” قط، بل كنا شعراء يحفرون على الحجر.
نحاول الإمساك بالمعنى في وجه المجهول.
وأنك، في أي مكان على الأرض، مهما كنت بعيدًا…
كنت دائمًا ترسم نفس الحلم على جدار كهفك.