افتتح الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف الدورة العلمية المتقدمة المتخصصة لـ 18 عالمًا من كبار علماء الهند، وعمداء كلياتها، وأساتذة جامعاتها، ورؤساء مؤسساتها الدينية والثقافية بأكاديمية الأوقاف الدولية بمدينة السادس من أكتوبر اليوم السبت، بحضور عدد من قيادات وأئمة وزارة الأوقاف، وفى كلمته رحب جمعة بالحضور من كبار علماء الهند فى بلدهم الثانى مصر، مؤكدًا أن هذه الدورة العلمية المتقدمة المتخصصة سيحاضر فيها نخبة من كبار العلماء فى مختلف التخصصات الشرعية واللغوية والثقافية.
كما أكد جمعة، أن صحة المقدمات تؤدى إلى صحة النتائج ملخصًا حديثه فى جانبين، الجانب الأول حسن القصد وتجديد النية، مشيرًا إلى أن هذه هى أهم مقدمة لنا جميعًا فتصحيح النية وصدقها مع الله (عز وجل) يثمر بركة فى العمل، مؤكدًا أن صدق النية وتصحيحها مطلوب فى جميع أعمالنا، فالبنية الصادقة تتحول العادات إلى عبادات، وقد بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أركان الإسلام فى قوله: “بُنِى الإسلامُ على خمسٍ شَهادةِ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّهِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وصَومِ رمضانَ وحجِّ البيتِ لمنِ استطاعَ إليهِ سبيلًا”، أما مفهوم العبادات فهو أوسع من ذلك بكثير، فالصدق عبادة، والأمانة عبادة، وإتقان العمل عبادة، وعمارة الكون عبادة، وربما تكون هذه العبادات أو بعضها أشق على بعض الناس من سائر العبادات الأخرى، والنية الصادقة تحول ذلك كله إلى عبادات، وإذا كان صدق النية مطلوبًا لنحول العادات إلى طاعات وعبادات فإن صدق النية فى طلب العلم ألزم.
وتابع جمعة : “وقد تحدث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن فضل العلم وطلبه، فقال تعالى: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ”، وقال سبحانه: “يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ”، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): “مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ” فمن خرج فى طلب العلم فى أى مرحلة عمرية فهو فى سبيل الله حتى يرجع، وهو فى جهاد حتى يرجع، وفرق بين الجهاد والقتال، فالقتال فى الإسلام قتال دفع لا اعتداء، أما الجهاد فمعناه أوسع، حيث يقول سبحانه فى شأن القرآن الكريم: “وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا”، فمن خرج فى طلب العلم صادقًا نيته فهو فى سبيل الله وهو فى جهاد حتى يرجع، وإذا كان الخروج إلى طلب العلم مع تقدم السن فهذا فضل آخر لأن بعض الناس اعتاد أن يطلب العلم فى مراحل عمرية معينة، والحقيقة: أن العلم من المهد إلى اللحد، وقد قال العلماء: المحبرة إلى المقبرة، ونظل فى حاجة إلى مزيد من التعلم، ومهما بلغ الإنسان فى العلم عليه أن يتذكر قول الله تعالى: “وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا”، فكلما ازداد الإنسان علما ازداد إدراكا إلى حاجته إلى المزيد من العلم، موضحًا أن طلب العلم يستدعى حسن القصد وصدق النية والإخلاص والتجرد وبذل الجهد، يقول الإمام الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدنى إلى ترك المعاصي
وأخبرنى بأن العلم نور
ونور الله لا يهدى لعاصي
وكان (رحمه الله) يقول:
أخى لن تنال العلم إلا بستة
سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة
وصحبة أستاذ وطول زمان
فتصحيح النية هو بيت القصيد، فإن صحت النية صح لها ما بعدها، حيث يقول الحق سبحانه: “مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا”، والمقصود بالعاجلة هنا هو طلب الدنيا دون النظر إلى الآخرة، أما طلب الدنيا والآخرة معًا فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو ما علمنا إياه القرآن الكريم حيث يقول سبحانه: “رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”، فما أجمل أن نطلب الدنيا والدين معًا، يقول الشاعر:
ما أحسَنَ الدِّينَ والدُّنيا إذا اجتَمَعا
وأقبَحَ الكُفرَ والإفلاسَ بالرَّجُلِ
فطلب الدنيا محمود إذا كان القصد منه عمارة الكون، فرسالتنا رسالة سلام للعالم كله، ومهمتنا أن نعمِّر الدنيا بالدين لا أن نخربها باسم الدين، فالدين فن صناعة الحياة وليس صناعة الموت، وما أجمل العيش فى سبيل الله بأن تسخر حياتك لمرضاة الله سبحانه بخدمة خلقه وقضاء حوائجهم وكف الأذى عنهم، موضحًا أن المحظور أن تكون الدنيا على حساب الآخرة قال تعالى: “مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا”، أى يريد الدنيا بأى طريق مشروع أو غير مشروع بغض النظر عن طريق تحصيلها، “وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا” أى إن أمر الآخرة يحتاج إلى عمل وسعى وقصد، وجاء التعبير بالسعى دون العمل لأن السعى يحتاج إلى همة ونشاط وعمل على أفضل طاقة ممكنة.
كما أكد وزير الأوقاف، أنه عندما نقرأ القرآن بما يسمى بالتفسير الموضوعى نجد اتساقًا عظيمًا وترابطًا قويًّا مع ما جاء فى سورة الإسراء، حيث يقول سبحانه : “كُلًّا نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا”، مع ما جاء فى سورة الكهف: “إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى”، وما جاء فى سورة مريم: “وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى”، وقوله تعالى: “سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا”، وهذا لا يتأتى لمن تاجر بدين الله (عز وجل)، إنما يتأتى لمن صدق الله فصدقه الله، وقد قالوا : من تعلم العلم ثم عمل به ثم علمه للناس فذلك يدعى عظيمًا فى ملكوت السماوات ومن عمل بما علم علمه الله علم ما لم يكن يعلم.
أما الجانب الآخر فهو الاجتهاد، مؤكدًا أن الاجتهاد يقتضى عدم التوقف عند حد أو سن فى طلب العلم، وقد قالوا لن تصل فى العلم إلى ما تريد حتى تتعلم ما لا تريد، فلا يكتفى أبدًا بتعلم العلوم الشرعية دون تعلم العلوم العربية أو الثقافية، ونؤكد على حاجتنا إلى مختلف العلوم، وأن العلم الذى نتحدث عنه هو مطلق العلم، حيث يقول (صلى الله عليه وسلم): “مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ” سواء فى تعلم الطب أو الهندسة أو الأحياء أو الفقه، فالأمة كما أنها فى حاجة إلى الفقه فهى فى حاجة إلى الطب وإلى غيره من سائر العلوم من مستجدات الحياة، ومهمتنا أن نعمر الدنيا بالدين، وكل ما جاء فى شأن العلم ورفعة أمره يشمل مختلف العلوم الإنسانية فى شتى المجالات، كما أشار إلى ضرورة إتقان علوم اللغة العربية، فقد قالوا إن فهم الكتاب والسنة فرض واجب، ولا يتم إلا بتعلم العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، مختتمًا حديثه بتقديم أنموذجين شرح من خلالهما دور اللغة العربية فى فهم المعنى واستنباط الأحكام.
وتقدم وفد كبار علماء دولة الهند وعمداء كلياتها، وأساتذة جامعاتها، ورؤساء مؤسساتها الدينية والثقافية بالشكر والتقدير لوزير الأوقاف على الدورة أكتوبر، وأهدى الوفد درع جامعة مركز الثقافة السنية الإسلامية بدولة الهند وزير الأوقاف ، تقديرًا لجهوده في مجال الدعوة وتجديد الخطاب الديني.
وفى السياق، استقبل وزير الأوقاف الدكتور شوقي علام مفتي الديار المصرية حيث قام الوزير الأوقاف بافتتاح الدورة العلمية بمحاضرة عن : أهمية التعلم المستمر وصدق النية في طلب العلم ودور اللغة العربية في فهم النص القرآني ، وأعقبها محاضرة لمفتى الجمهورية بعنوان : “أهم القضايا الفقهية المعاصرة”.