أسماء عز الدين تكتب: قبل أن يرحل أبي!
عشتُ أكثر من نصف عمري قبل أن يرحل أبي وأنا خائفة من هذه اللحظة؛ من اللحظة التي أصبح فيها بلا أب، فما من طريق سلكته خلال كل هذه السنوات الماضية إلا وبكيت فيه من أعمق نقطة في قلبي من شدة خوفي عليه وعلى نفسي وحياتي بدونه.
كان أبي رجل تجتمع فيه كل صفات الصالحين، فلم يكن يترك بابًا يقربه إلى الله إلا وسلكه، لم يعرف في حياته غير كلمة الحق، ودومًا كانت الشهامة والإخلاص صفاته، عمل لآخرته قبل أن يفعل لحياته، لدينا جميعًا يقين بأنك مُنعم في جنة الخلد بإذن الله، وأنك لم تدخل قبر مُوحش بل دار نور وراحة وأمان، ولكنه الفراق يا حبيبي!
فالأيام أصبحت ثقيلة للغاية. اعتقد أن اليوم الذي تلقيت فيه خبر وفاته كان قبل سنوات وليس كما يقولون أنه حتى لم يُكمل شهرًا في قبره! لم تكن الحياة قبل رحيله بهذا الإرهاق النفسي والبدني والعقلي! نفتقد وجودك بشدة أبي الحبيب، ولا أظن أنه بالإمكان تجاوز رحيلك بسهولة، وكيف نتجاوز غياب الرجل الذي أفنى عمره من أجلنا.
في كل يوم أتسائل كيف للمرء أن يعيش بعد أبيه؟ كيف له أن يعود ويمارس حياته بشكل طبيعي وكأنه لم يفقد قطعة من روحه؟ كيف تصبح كل الحياة التي عشتها معنا مجرد ذكرى؟ كيف ندخل بيتنا ولا نجدك؟ من سأُقبل يده بعد الآن ويرد علي مازحًا “متباسة حالا”، من سيناديني بأكثر الأسماء المحببة لقلبي؟!
أحيانًا كثيرة أوهم نفسي بأنك لا زلت حيًا وتمكث هناك في بيتنا، ولكني عندما أذهب إليه لا أجدك! لا أجدك أول شخص تُقابلنا وترحب بقدومنا_ كانت زيارتنا أكثر ما يبهجك أعلم ذلك_، ولا أجد يدك لأقبلها، أجد سريرك فارغًا وأجد قلبي يحترق من الحزن!
لم يفرق أبي يومًا بين ولد وبنت، عكس ما يحدث في مجتمعه الريفي الذي يتباهي الغالبية من أبنائه حتى وقت قريب عادة بـ “خلفة الذكور”، فلم يكن مثلهم ولم تكن هذه عقليته، بل العكس ما كان يحدث أحيانًا، فلم يُشعرنا يومًا وهو الذي أنجب 6 بنات _كنتُ أنا أصغرهم_، بأننا كنا عبء عليه، بل يزيد في دلالنا وكان يقول بخفة دم لشقيقي الأصغر ” قوم اعملهم الشاي.. معنديش بنات تعمل شاي”.
كنا نرى الحب منه قولًا وفعلًا، رأينا وعيشنا معه كل جميل.. عشنا بفضله أوقات لن تعوض وبكل أسى لن تعود.. لا أذكر أن أبي خذلني في يوم على مدار عمري، بل دعمني في كل خطوات حياتي الشخصية والعملية معنويًا وماديًا، زرع فينا الطموح والسعي من أجل النجاح. كنا نرى في عينه دومًا نظرة فخر ورضا بنا.. وكنا نبادله نفس النظرة، كنت أقولها بكل شموخ وعزة “بنت الحاج نافع عز الدين”.
قبل أن يرحل أبي كنت أعتقد أن العبارات أمثال “من مات أبيه فقد سنده وهكذا” مجرد تشبيهات مجازية، لكني والله شعرت منذ اللحظة الأولي له في قبره بأني فقدت ضلع من ضلوعي بالمعني الحرفي، شعرت بأن ظهري للعراء.. أنني وحيدة وتائهة وخائفة جدًا.
في كل ليلة انتظر حتى ينام صغاري لأُبكيك.. صغاري الذين تمنيت ألف مرة لو عاشوا معك أكثر من ذلك ليتعلموا منك ويقتدوا بك، كنت أتمني أن تعيش أكثر وتحتضنهم بشدة وتعانقهم وتجلس معهم كتلك الجلسات التي كنت تجلسها معنا ونحن صغار، ولتفيض عليهم من حنانك وودك ليروا ابتسامتك الطيبة، ليروا كيف كانت هيبة جدهم ووقاره وحكمته.
يقولون أن الحزن يولد كبيرًا ثم يصغر، ولكن ما يحدث معنا هو العكس ففي كل يوم تزداد الحياة صعوبة ويزداد الألم في الصدور، وتفيض أعيننا بالدموع أكثر من اليوم الذي سبق، أتحدث معك في كل يوم الآف الكلمات وأدون على ورقي ما لا أستطيع البوح به.. ما عرفته الآن وتيقنت منه أننا كنا بخير عندما كنت معنا، أما الآن فلست بخير أبدًا ولا أعرف متى أو كيف سأعود كما كنت قبل أن يرحل أبي!